الذوق  والمعرفة

 

 

 

نحتكم كثيرًا  في محاوراتنا الأدبية على الذوق ، ويعتبره البعض تقريرًا خلاصته :

" يعجبني " و " لا  يعجبني "  ، بينما يعتبره البعض الآخر مسألة نسبية  وذاتية 

 

وفي رأيي أن الذوق يأتي بعد إدمان القراءة والتأمل والتفكير والممارسة  فأنت لا تستطيع أن تحكم على جودة نسيج  ما  إلا بعد شرح جزئي لآلاف القطع تكتسب منها تجارب وخبرة ودراية تؤهلك للحكم . وإذا كان النسيج شيئًا ملموسًا حسيًا فإن الأدب أحرى أن يصعب الأمر فيه ؛ ذاك أن الأدب يعبر عن عاطفة إنسانية متشابكة العلائق والأثر .

إن الذوق في أعرافنا السائدة في اللباس والطعام والمسكن  يحتّم معرفة يكتسبها الإنسان تدريجيًا ، مضافة إلى موهبة تستقبل المكتسب وتتفاعل فيه . والتعبير عن الذوق/ التذوق فيه تواصل بين الوعي واللغة ، فإذا رأينا لوحة معينة وأردنا أن نبدي انطباعنا فلا بد لنا من استخدام معرفتنا للعلاقات الممكنة بين الأشياء والظواهر . وبسبب التعددية المتفاوتة للظواهر الحياتية فإن اللغة ستكون متعددة متفاوتة تبعًا لذلك ، وعندها ينعكس الواقع بكل صفاته – ويُفهم هذا الواقع في صورته الفنية .

و الذوق لدى الجمهور يصعب الحكم عليه ، فتارة تحترمه ، وتارة تبكي عليه . تحترمه لأنه يكافئ عباقرته الذين انطلقوا منه وإليه ؛ وتبكي عليه كما بكت المخرجة التشيكية ( فيرا  شتولوفا ) بعد عرض فيلمها  " ضربة هنا وضربة هناك "  في مهرجان القاهرة السينمائي الثالث عشر – نوفمبر 1989  ، فقد شكت لإدارة المهرجان من جراء تصفيق الجمهور للفيلم بعد انتهاء عرضه . وسبب حزنها أنه تم عرض الجزء الأخير من الفيلم قبل الجزء الأول ، ولعدم ترتيب فصول الفيلم ، حيث جاءت نهايته في وسط الأحداث... ولم يلاحظ أحد من الجمهور هذا الخلط في تقديم الفيلم ، فأخذت تبكي وتبكي .

وإذا عدنا إلى الجمهور – إلى الفرد فيه فذوق من – يا ترى – نجعله حكمًا فيصلا ؟

     ذوق ( أ )  وهو لا يكاد يقرأ عناوين الصحف ؟

     ذوق ( ب ) الأكاديمي الذي انتهت دراسته بحصوله على الشهادة وتعليقها على جدار غرفة الاستقبال ؟

    ذوق ( ج ) المثقف ثقافة الإخوان المسلمين ؟

   ذوق ( د )  المتخبط في فلسفات ومتاهات ؟

   ذوق  ( س ) الذي ركن إلى معرفة قديمة لبعض أبيات من الشعر القديم رددها مئات المرات في مناسبات مختلفة ؟

   ذوق ( ص )  الذي يدعي أنه يعرف قواعد العربية ويتحدى بها كل من ينطقها ؟

   ذوق من ؟

ومأساة الشعر في الذوق مأساة  !!!

 

الشعر عندنا – من دون سائر فنون الله – يدعي معرفته وملكيته الجميع . من يمتلك أوليات   فهمه ومن لا يمتلكها . بينما الرسم والنحت والتمثيل والموسيقا والخط و ...فنون لا يجرؤعلى الدنو من محرابها إلا من أوتي حظًا في معرفة أصولها .

أما الشعر – عندنا – فهو حمار للركوب كما كان الرجز ذات مرة .

فإذا قلت لأحدهم : أنت بعيد عن الشعر وتذوقه فكأنك شتمته ، بينما يقبل منك متواضعًا كل مقولة تقولها لتدل بها عن بعده عن أي ميدان آخر .

إذن يصعب تحديد الذوق في قضية يدعيها الكثيرون . كما يصعب قبول  الذوق ممن ليس له تخصص في المسألة التي يتناولها .

رُوي أن فنانًا صنع تمثالاً، فكان - في تقديره - آية  في الإبداع . قرر الفنان أن يختبئ وراء ستار ليراقب ويستمع  إلى ملاحظات المارة .   توقف أحدهم معجبًا ، لكنه ما لبث أن امتعض من بنية الحذاء . خرج الفنان من مخبئه واستجلى حقيقة رأيه ، وسأله عن صنعته ، فأجابه الرجل أنه إسكاف . فسرعان ما عمل الفنان بنصيحة الرجل ، وأجرى على التمثال تغييرًا ما . وبعد هنيهة  مر الإسكاف ثانية من نفس المكان ، وعلق قائلاً : لو كانت قبعته كيت وكيت .. عندها خرج الفنان  إليه ثانية  ، ولكنه قال " ليس هذا من اختصاصك  ، امض لسبيلك !   "

الذوق إذن يحتاج إلى معرفة ، وإذا كان الصوفيون يقولون " من ذاق عرف " ، فإنني أقول  " من عرف ذاق  " .

وهناك عنصر آخر يضاف إلى المعرفة ، هو الأمانة الذاتية  ، وذلك في معرفة الإنسان موقعه من المعرفة  ، والتعبير عنها بإخلاص  . وحتى أبرهن على ذلك آتي بلوحة لفان غوخ مثلاً ، وأطلب من بعض الأصدقاء أن يتحدثوا عنها  ، عندها يأخذ كل واحد في التعبير عن نفسه من خلال زاوية الرؤية  . إلى هنا هذا حق  .

ولكن ، يأتي إلينا رسام خبير بالخطوط والألوان والظلال ، فيبدأ بالتحليل والتقويم والتقدير – ساعتها يحس من يملك " الأمانة الذاتية " بأنه ليس أهلاً للحكم  ، فينسحب بكرامة  ؛ بينما يواصل المكابر بعشوائية ورصف عبارات وعبارات .

أرأيتم كيف أن المعرفة هي الأساس  والنبراس ؟ المعرفة الأدبية تتأتى – كما قلت – في إدمان القراءة والتأمل فيما يُقرأ .  وأضيف الآن  :

إن القراءةيجب أن تكون موجَّهة  - يوجهها نقاد ،ومعلمون تحلوا بذائقة سليمة لا سقيمة ،  وغذوا أنفسهم باستمرار من منابع الفكر الإنساني النير ، مما يخدم الإنسان أيًا كان على الصعيدين المعيشي والجمالي . وعلى ذكر هذين الصعيدين وأهميتهما تحضرني حكاية قصيرة يابانية ، خلاصتها أن جوعًا ألم بقرية يابانية ، وكان مع فتى ( ين )  واحد . ذهب الفتى واشترى بنصف الين خبزًا ، وبالنصف الآخر وردة  .

 

فلنكف عن القول العابر " يعجبني " و " لا يعجبني "  ، ولنأخذ المسألة الذوقية جِدًّا كل الجد  ، مدركين أننا أحوج إلى المعرفة . وحسنًا نفعل إذا سبرنا مقدار معرفتنا وأهليتنا للخوض في بحر  الموضوع – أي موضوع .

 

ورحم الله امرءًا عرف حده فوقف عنده .